فيفيان سمير تكتب: ضربات الحب
بوابة المصريينتبرز علاقة الآباء بأبنائهم كواحدة من أعمق وأجمل الروابط؛ فالأبوة والأمومة تحمل في طياتها أروع مشاعر الحب والرعاية والاهتمام، لكنها أحيانًا تأخذ مسارات غير متوقعة، حيث يتحول الحب إلى معول هدم دون قصد. إن الآباء رغم حبهم العميق ورغبتهم في توفير أفضل حياة لأبنائهم، قد يسقطون في فخ العنف الذي يظنون أنه أسلوب تربوي فعال.
يبدأ الأمر عادة بمفهوم غير صحيح عن التربية. يعتقد بعض الآباء أن العنف الجسدي أو العنف اللفظي أو الإرهاب النفسي، يمكن أن يشكل وسيلة لتحقيق الانضباط والتعليم، ولكن، في واقع الأمر هذه التصرفات تؤدي إلى آثار عكسية، حيث تنشأ مشاعر الخوف والقلق والاضطراب في نفوس الأبناء، بدلاً من الحب والاحترام، وينتج عنها أفرادا مكسورين نفسيًا وضعيفي الشخصية. فبدلًا من تعليمهم كيفية التعامل مع الفشل أو الخسارة، يرسخ العنف في نفوسهم فكرة أن الحلول تأتي من خلال القوة والهيمنة. إن هذا النوع من التربية يعيق النمو العاطفي السليم، ويؤدي إلى عواقب سلبية على المدى الطويل، كما أن تكرار هذه السلوكيات يزرع بالأطفال فكرة أن الحب مقترن بالألم؛ فالأبناء الذين ينشؤون في بيئة مليئة بالعنف غالبًا ما يكون لديهم صعوبة في بناء علاقات صحية مع الآخرين. يتعلم هؤلاء الأطفال أن الحب مرتبط بالخوف والإيذاء، مما يجعلهم يميلون إلى تكرار نفس الأنماط في علاقاتهم المستقبلية. إنهم يصبحون إما ضحايا للعنف أو ممارسين له، مما يخلق دائرة مفرغة من الألم والمعاناة.
تنسج التجارب الأولى خيوطًا رقيقة تشكل نسيج العلاقات التي سيبنيها الفرد لاحقًا. الطفل الذي ينشأ في بيئة تعج بالقسوة والعنف يحمل في أعماق روحه مفهومًا مشوشًا عن الحب والعلاقات. فهل يمكن للإنسان أن يعرف معنى الحب الحقيقي، إذا كانت ذكرياته الأولى مشبعة بالمعاملة المسيئة؟
الطفولة مرآة للروح حيث تُعتبر الفترة الأكثر حساسية في حياة الإنسان، فيها تتكون المفاهيم الأولى عن الذات والعالم من حوله. الطفل الذي يتعرض للإيذاء الجسدي أو النفسي يتعلم أن الحب مرتبط بالخوف والاضطراب والمعناة، والاهتمام مقترن بالتعنيف والتأنيب. تظهر هذه التجارب القاسية في سلوكه كنتيجة للصورة الذهنية المشوهة المسيطرة عليه، حيث يُصبح العنف جزءًا لا يتجزأ من مفهومه عن العلاقات، حتى حين يصبح هذا الطفل بالغًا، يظل يحمل إرث تلك الطفولة القاسية، مما يجعله أكثر عرضة لاختيار العلاقات السامة التي تعكس نفس الأنماط المؤلمة، فيجد نفسه يتجه نحو شراكات تفتقر إلى التقدير والاحترام، معتقدًا أن هذه العلاقات هي تجسيد للحب الحقيقي. في نظره، قد تبدو المشاعر المتضاربة، مثل الشغف المقترن بالخوف أو الارتياح الممزوج بالقلق، تعبيرًا عن الحب، رغم أنها مجرد تجليات لعلاقة غير صحية. يتكرر السيناريو، حيث يصبح الألم جزءًا من الروتين اليومي، وتتملك هذا الشخص فكرة أن الحب لا يأتي إلا عبر المعاناة، والقسوة هي جزء من مظاهر الحب.
مع مرور الوقت، يصبح الشخص الذي تعرض للتعنيف عالقًا في دوامة من العلاقات الفاشلة. يحاول أن يجد الأمان في أماكن غير صحيحة، وقد يدفعه هذا إلى العزلة العاطفية. في أعماقه، يعرف أنه يسعى وراء شيء غير موجود، لكنه لا يستطيع أن يتخلى عن فكرة أن الحب يجب أن يكون مؤلمًا. هذه الحالة النفسية تجعله يشعر بالفراغ، وكلما اقترب من شخص ما، تشتد مخاوفه من أن يخطأ أو يقصر وبالتالي يكون مهدد بفقد الشريك، مما يدفعه إلى حالة من التوتر الدائم والتضحية والقبول بأشكال الإساءة المختلفة، والاستمرار بعلاقة مؤذية تهدر حياته وقدراته وتُخضعه للاستغلال والاستنزاف النفسي.
إن إدراك الشخص المُعنف لحالته النفسية والترسبات السلبية بعقله الباطن، ورغبته في الخلاص منها والعلاج، يعتمد على عدة عوامل، منها طبيعة التجربة التي مر بها، والبيئة المحيطة به، والدعم المتاح له؛ فبعض الأفراد قد يكون لديهم وعي داخلي بمشاعرهم وحالتهم النفسية، ويدركون أن تجاربهم السابقة أثرت عليهم بشكل سلبي، هؤلاء أكثر استعدادًا للبحث عن المساعدة والعلاج.
في المقابل، هناك أشخاص قد يعيشون في حالة من الإنكار، حيث لا يدركون أنهم يعانون من اضطرابات نفسية، فيعتقدون أن مشاعرهم أو تصرفاتهم هي طبيعية وجزء من حياتهم، مما يمنعهم من السعي للعلاج. كذلك التصورات الاجتماعية حول الصحة النفسية، قد تؤثر أيضًا في هذا الإدراك. في بعض الثقافات، قد يُعتبر طلب المساعدة النفسية علامة على المرض العقلي، مما يؤدي إلى مقاومة الفكرة لدى البعض، لكن وجود شبكة دعم قوية من الأصدقاء والعائلة يمكن أن تساعد في زيادة الوعي وتزويد المريض ببعض المعلومات حول الصحة النفسية التي قد تفتح عيون الشخص على حالته، وقد يكون ذلك دافعًا له للتفكير في طلب المساعدة المتخصصة، حيث يمكن أن تساعد الجلسات العلاجية في إعادة صياغة المفاهيم الخاطئة عن المشاعر والممارسات المسيئة. من خلال هذا المسار من الفهم والدعم، يمكنه أن يتحرر من قيود الماضي، ويبدأ رحلة جديدة نحو علاقات أكثر صحة وسعادة، ويتعلم كيف يبني علاقات قائمة على الاحترام والثقة والأمان، وأن يُعيد تعريف مفهوم الحب بعيدا عن القسوة والألم.
وفي النهاية، فإن إدراك الشخص المعنف لاضطرابه النفسي ورغبته في العلاج تختلف من شخص لآخر، فيما أن الدعم والتوعية هما مفتاحان مهمان في مساعدته على اتخاذ تلك الخطوة نحو الشفاء. كما يجب على المجتمع أن يقدم الدعم للأفراد الذين عانوا من هذه التجارب، وأن يُساعدهم في إعادة بناء شخصياتهم، كما يجب أن يوفر برامج لتوعية الآباء بطرق التربية الصحيحة، وكيفية التعبير عن حبهم بأساليب بناءة وأن يكون هذا الحب مبنيًا على أسس سليمة، فالعنف ليس وسيلة للتربية، بل هو عائق أمام النمو النفسي والعاطفي. يجب على الآباء أن يسعوا لتكوين بيئة آمنة ومُطمئنة تعزز من قدرات أبنائهم وتساعدهم على النمو في أحضان الحب والرعاية، بعيدًا عن ظلال العنف؛ فتكون التربية مبنية على الحوار والاحترام المتبادل، ويُشجع الأبناء على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم.
إن استخدام أساليب تربوية تعتمد على الفهم والتفاهم بدلاً من العنف، يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في حياة الأطفال. فالغرض من التربية هو إعداد الأبناء لمواجهة الحياة بمرونة وقوة، وليس لتخويفهم أو تقييدهم. إن الحب الحقيقي ليس هو ما يُشعرنا بالألم، بل هو ما يُشعرنا بالسند والأمان والاحتواء.