فيفيان سمير تكتب: الهمس الخفي


قالت أحلام مستغانمي: "العمارةُ هي الصمتُ الذي يَصْحو حين يغفو البشر"
هل الأماكن تخلدنا أم نخلدها؟ أم أنها رقصة الخلود المتبادل؟ هل نحن الذين ننقش ذاكرتنا على جدران الأماكن، أم هي التي تمنحنا مساحةً من الوجود لا تنتهي بفناء الجسد؟
تقف الأماكن المهجورة تحرس أسرارها بحذر، الجدران المتشققة ليست مجرد جدران، بل شفاه متصدعة تهمس بحكايات تبحث عمن يسمعها. في تناغم بين الحجر والذكرى، تصبح الذكريات كائنات ملموسة، وتتحول العتمة إلى لغة عالم الأماكن المتروكة، فهي ليست فارغة، بل مكتظة بحكايات تنتظر من يرويها. الجدران هنا لا تصمت أبداً، لكن نفتقر نحن إلى القدرة على الإصغاء. كل مكان مهجور هو روح تنتظر من يدفع ثمن تذكرة الدخول إلى مملكتها.
كل باب يُغلق على سر، كل نافذة تتنفس ذكرى. الأماكن ليست جدرانا وحجارة، بل كائنات تنام بعين واحدة مفتوحة تحرس ما أودعناه فيها من أنفاسنا. البيوت تعرف أكثر مما تتكلم، تختزن دفء الأجساد الغائبة في زواياها، وتحتفظ ببصمات الأصابع على زجاج نوافذها، كأنها تقرأُ كف الماضي كل مساء. حتى الأرصفة البالية لها قلوب، تتذكر وقع الأقدام التي مرت عليها، وتحمل في شقوقها حكايات العابرين. دمعةَ طفل سقط ذات ظهيرة، أو تنهيدة عجوز، أو لقاء سري لأحدهم تحت مصباح الشارع الخافت. المقاهي القديمة تشرب من أكواب الزبائن الغائبين، تختلط رائحة القهوة بأحلام طائرة علقت بالسقف، والطاولة التي في الزاوية ما زالت دافئة من جلوس من رحلوا منذ سنوات.
حين تدخل مكانا للمرة الأولى، استمع لأنفاس من سبقوك، فهناك دائما همسا معلقا بالهواء، يخبرك أنك لست أول من مر من هنا، ولن تكون آخر من ضحك أو بكى وأوى المكان أحزانه وأفراحه. الأماكن تصلي على أرواحنا بعد أن نغادرها، فتحول وجودنا العابر إلى ترانيم من ضوء تتلوها الجدران مع كل نسمة هواء.
المكان وعاء الزمن" كما قال الشاعر أدونيس. ليست جمادا صامتا، بل كائنات تحمل أرواحا خاصة بها. انظر إلى تلك المقاهي العتيقة في الإسكندرية حيث ما زال مقعد كافافيس يشع بوهجٍ خاص، أو مبنى "فيرمونت" الذي ما زال يحتفظ بأنفاس الملك فاروق بين جدرانه، أو مقهى "الهورس شو" في لندن حيث يمكنك سماع صرير قلم برنارد شو وهو يكتب مسرحياته الخالدة، أو غرفة فرجينيا وولف المغمورة بضوء النافذة، التي كتبت عندها "الأمواج". هذه الأماكن لم تصبح أسطورية لأنها جميلة، بل لأن هؤلاء حولوها إلى مرايا لعوالمهم الداخلية، لأنها احتضنت أرواحا عظيمة منحتها الخلود. الحقيقة تكمن في العلاقة التكافلية بين الإنسان والمكان، كل منهما يحمل جزءا من الآخر. الأماكن تحتفظ بعطر وروح الزمن وتخلد اللحظات لتمنحها لنا يوما ما.
في زقاق ضيق بمدينة قديمة، حيث تتدلى الفوانيس النحاسية كشموس صغيرة، يقبع مقهى لم يتغير منذ مئة عام. الأبواب الخشبية تئن بنفس النغمة، والطاولة في الزاوية ما زالت تحمل آثار كوب قهوة وضعته هناك يد رحلت منذ عقود. هذا المكان خزانة سحرية تحتفظ بأنفاس من عبروا هنا، لتعيدها إليهم حين يعودون. كم مرة عدت إلى مكان من طفولتك، حيث تقبع اللحظات المنسية مثل كتب ملقاة في غرفة مظلمة، الشارع يحفظ خطواتك، والرصيف مازال يحتفظ بسر قدميك الصغيرتين، الأرض تتذكر كل دمعة سقطت عليها، كل ضحكة ارتجت لها، الدرج الخشبي يئن تحت وطأة خطوات غادرت، والمرآة المكسورة ما زالت تحتفظ بانعكاسٍ أخير لوجه لم يعد يشبه أحدا. تلك الغرفة هناك تتنفس ذكرياتك، لا تزال تحتفظ بدفء اللحظات المنسية في زواياها، إذا ما وقفت هناك قد تشعر بلمسة خفيفة على كتفك، ليست إلا روح تلك الذكرى تعود لتعانقك من جديد. عندما تعود إلى مكان عزيز بعد غياب طويل، حيث ما زال ظلك يجلس ينتظرك، تشعر وكأنك تلبس جلدك القديم. الروائح، الأصوات، الظلال، كلها تعيدك إلى ذاتك التي كنتها. الأماكن تعيدنا إلى أنفسنا حين ننسى من كنا وتعيد إلينا رائحة من نفتقدهم؛ فنحن لا نزور الأماكن، بل نزور ذكرياتنا المخزنة فيها. كل رحلة هي في الحقيقة رحلة إلى الماضي، كل عودة هي لقاء مع نسختنا القديمة بكل مشاعرها. الأماكن تمنحنا هبة عظيمة، هي القدرة على العيش أكثر من مرة، في أكثر من زمن، بأكثر من هوية.
في المرة القادمة حين تمر أمام مبنى مهجور، أصغي جيدا. قد تسمع صوت بيانو عاجز يعزف مقطوعة ناقصة، أو صرخة غبار مطفأة في زاوية مظلمة ترفع الستائر عن نافذة مغلقة، أو صوت ساعة حائط تحرك عقاربها إلى الوراء تحاول عبثا قضم الزمن ووجهها المكسور يبتسم بسخرية، أو ربما مرآة تعكس وجوها لم تعد موجودة؛ فالأماكن لا تخلدنا لأننا أتيناها، بل لأننا تركنا فيها شيئا لا يستطيع الزمن ابتلاعه، جزءا من أرواحنا. حاول أن تقرأها كما تقرأ رسالة وجدتها في جيب معطف قديم، ربما تكتشف أن تلك الجدران ما هي إلا مرايا تعيد تشكيل ذاكرتك كلما مررت بها. وتذكر أن "لكل إنسان مكان يعيده إلى نفسه حين يضيع" كقول غاستون باشلار.
لذلك، حين تدخل مكانا للمرة الأولى، انتبه؛ فأنت لا تترك فقط بصمات قدميك على أرضه، بل تترك جزءا من روحك بين جدرانه، ليجده أحدهم يوما ما، أو ربما تعود أنت له، فالأماكن لا تموت، بل تنام كالأساطير تنتظر من يقرأها، من يفك شفراتها، من يعيد إحياء أرواحها النائمة بين الحجارة والذكريات، أو من يوقظها بسؤال.