الخميس، 24 أكتوبر 2024 04:24 مـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: العالم السفلي للإنترنت

فيفيان سمير
فيفيان سمير

في عصر تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا بمعدل غير مسبوق، يبرز عالم خفي، مظلم، يتواجد في جوف الشبكة العنكبوتية، يُعرف باسم "الدارك ويب". هذا العالم السفلي، الذي يُعتبر بمثابة الجانب المظلم للإنترنت، يلفه الغموض ويثير الفضول، فهو مكان يتجاوز الحدود التقليدية للواقع ويجمع بين الخطر والإثارة. "الدارك ويب" هو جزء صغير من الإنترنت لا يمكن الوصول إليه عبر محركات البحث التقليدية مثل جوجل أو بينج، بل يتطلب استخدام برامج خاصة مثل "تور" (Tor) التي تُخفي الهوية وتُعزز الخصوصية، حيث تعمل شبكة الإنترنت المظلم على نظام التشفير، فمثلا شبكة تور (Tor) قد يُطلق عليها في النظام المشفر اسم «أونيون لاند» (onionland) التي تعني «أرض البصل»، حيث تبقى هُوِيّات مستخدمي الإنترنت المظلم ومواقعهم مجهولة، ولا يمكن تتبعها بسبب النظام المعقد والمتراكب للتشفير الذي يقوم على عدد كبير من الخوادم الوسيطة، التي تحمي هوية المستخدمين وتضمن عدم الكشف عنها، والمواقع ليست قادرة على تتبع وتحديد الموقع الجغرافي والملكية الفكرية من مستخدميها، وكذلك المستخدمين غير قادرين على الحصول على هذه المعلومات حول المضيف. إنه مكان تتداخل فيه الحقائق مع الخيال، حيث يمكن للزوار الانغماس في عوالم جديدة بعيدة عن أعين الرقابة، مما يجعله مركزًا للأنشطة الغريبة والمثيرة للجدل.
هذا العالم الذي يشبه المتاهة المعتمة يحتضن في ظله مجموعة من الأنشطة التي تتراوح بين الغريب والمخيف، ويشكل بُؤرة للغموض والجريمة، كتجارة السوق السوداء التي تبيع كل شيء من المخدرات إلى الأسلحة، وغسيل الأموال، وتجارة الاعضاء، مرورًا بالبيانات الائتمانية وبطاقات الائتمان المسروقة وتبادل البيانات السرية والأنشطة الإجرامية. ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك؛ فهناك أيضًا منتديات تناقش مواضيع مثل القرصنة، وبيع المعلومات الشخصية والخدمات الإباحية، وحتى خدمات الاغتيالات. كل هذه الأنشطة تُظهر جانبًا مظلمًا من الطبيعة البشرية، حيث يُستغَل غياب الرقابة وعدم وجود عواقب فعلية. تجلب الدارك ويب معها تحديات جديدة تتعلق بتفاقم الجرائم الإلكترونية وتبادل البيانات غير القانوني، فمن خلال هذا العالم المظلم، يتسرب الفساد والجريمة إلى عقول الأفراد، مما يؤثر على قيمهم وأخلاقياتهم، وتتمثل أحد تلك التأثيرات في تعزيز ثقافة الاحتيال والخداع، وينعكس ذلك على القيم المجتمعية من خلال تشجيع وتيسير الأنشطة الإجرامية. حيث يتيح هذا العالم الظلامي للجماعات الإجرامية فرصة للتنفيذ والتنسيق في أعمالها، مما يزيد من انتشار الجريمة والفساد في المجتمع.
وقد أجرى الباحث غاريث أوين من جامعة بورتسموث دراسة في ديسمبر عام 2014، توصل فيها إلى النوع الأكثر شيوعا من المحتوى على الويب المظلم، ووجد أنه يتعلق بمواد الاستغلال الإباحي للأطفال، ويليها الأسواق السوداء، في حين أن المواقع الفردية التي سجلت أعلى زيارة أو دخول، كانت تلك المخصصة لعمليات البوتنت (botnet)، وكذلك منتديات النقاش السياسي، ومواقع تقديم الخدمات المتعلقة بالغش وخدمات طلب البريد.
إلى جانب الأنشطة غير القانونية، يضم الدارك ويب أيضًا منصات توفر حرية التعبير للذين يعيشون في أنظمة قمعية. يعكس البحث عن حرية الرأي على الدارك ويب رغبة الأفراد في التمرد على القيود والقوانين الظالمة والسعي نحو تحقيق العدالة. يستخدم البعض هذا العالم المظلم كوسيلة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم بشكل مجهول ومحمي، حيث يجدون فيه ملاذًا للحرية والتمرد على القيود الاجتماعية.
تتجلى التناقضات في هذا العالم المعقد من خلال التصادم بين الجريمة والبحث عن الحرية، بين القمع والتحرر، بين الظلم والعدالة. ويُعد الدارك ويب مساحة يتجاوز الإنسان فيها حدود القوانين والتقاليد، ليبحث عن حقه في التعبير عن آرائه واحترام حريته الشخصية، وتُمكن الصحفيين والنشطاء من استخدامها لتبادل المعلومات بحرية دون خوف من العواقب أو الوقوع تحت طائلة القانون. هنا، يتجلى تناقض مثير؛ فبينما يُعتبر الدارك ويب ملاذًا للجرائم، فإنه أيضًا ملاذا للباحثين عن الحرية.
وهنا يبرز التأثير المزدوج ل "الدارك ويب" على المجتمع، من جهة، يمكن أن يسهم في نشر الجريمة وتعزيز الأنشطة غير القانونية، مما يؤدي إلى تفاقم مشاكل مثل الإدمان والعنف والجريمة بوجه عام. وعلى الجانب الآخر، يُعتبر مكانًا للنجاة بالنسبة للبعض، حيث يُمكنهم التعبير عن آرائهم بحرية بعيدا عن بيئة مُحاطة بالخوف والرقابة.
الأبحاث تشير إلى أن الدارك ويب يُعزز من ثقافة السرية والانفصال عن القيم الاجتماعية التقليدية. فالأشخاص الذين يترددون على هذه الأماكن غالبًا ما يكونون في بحث دائم عن التجربة المثيرة أو الهروب من الواقع. كما أنه يخلق شعورًا بالانتماء إلى جماعة خاصة تشترك في اهتمامات غير تقليدية، مما يُزيد من جاذبيته؛ فالبعض يسعى إليه بدافع الفضول، لاستكشاف المجهول واكتشاف أسرار العالم الخفي، آخرون قد يكونون مدفوعين بالملل أو البحث عن الإثارة، حيث يعتبر هذا الفضاء بمثابة مغامرة غير تقليدية ويستمتعون بالمخاطرة. وهناك من يسعى إلى الهروب من الواقع المرير، باحثًا عن ملاذ أمن في عالم لا يخضع للقوانين التقليدية.
يظل الدارك ويب لغزًا معقدًا يتداخل فيه الخيال مع الواقع، حيث تتصارع فيه قوى الخير والشر. إنه مكان يتطلب الحذر، لكنه أيضًا يُشير إلى عمق الطبيعة البشرية ورغبتها في استكشاف ما وراء الحدود وتجاوز المسموح وخوض المخاطر. قد لا يكون الدارك ويب مكانًا ترغب في زيارته، لكنه بلا شك يُعتبر مرآة تعكس جوانب مظلمة من المجتمع المعاصر، وتدعونا للتفكير في القيم والأخلاقيات التي نعيش بها في عالم مفتوح وخارج عن حدود السيطرة
كما تترك تلك الممارسات أثرًا عميقًا على المجتمعات وقد تؤدي إلى تغيرات جذرية في المستقبل، حيث ينطوي تأثير هذه الممارسات على تقويض أسس النظام الاجتماعي وزعزعة الاستقرار، مما يفتح الباب أمام تحولات كبيرة قد تؤثر على استقرار المجتمع في مواجهة طبيعة مختلفة للجريمة، فقد يؤدي انتشار الجرائم الإلكترونية والتجارة غير المشروعة على الدارك ويب إلى زيادة معدلات الجريمة التي لا تطالها يد القانون، ومن الناحية الاقتصادية، قد يؤدي تفشي الجرائم الإلكترونية إلى تقويض الاقتصاد وتقليص فرص التنمية، مما ينذر بانعكاسات سلبية. يتطلب هذا التحدي تعاون دولي وتبادل معلومات فعّال لمكافحة الجريمة الإلكترونية وتعزيز الأمان السيبراني، وبما أن تهديدات الأمن السيبراني تتزايد، يجب تحسين الحماية الإلكترونية والحرص على التوعية بأخطار الإنترنت المظلم، كما ينبغي وضع إطار تشريعي فعال وقوانين صارمة لحماية البيانات وتنظيم استخدام الإنترنت، ويجب أن تكون هناك سياسات وتشريعات وقوانين تحدد حقوق وواجبات المستخدمين الإلكترونيين والشركات فيما يتعلق بالحماية السيبرانية والبيانات الشخصية. كما ينبغي معاقبة المخترقين والمعتدين على الأمن السيبراني بعقوبات صارمة لتثبيت ردعية القانون لمكافحة الجرائم الإلكترونية. كذلك ينبغي دعم الحوار والتعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني للتصدي لتلك التحديات بشكل شامل. ومن الجدير بالذكر أن القانون المصري، للجرائم الإلكترونية يعاقب من يستعمل شبكات الإنترنت من أجل الوصول لمعلومات الآخرين دون وجه حق، بالحبس لمدة 3 أشهر كحد أدنى، وغرامة بقيمة 30 ألف جنيه مصري كحد أدنى و50 ألف جنيه مصري كحد أقصى أو كلتا هاتين العقوبتين.
علاوة على ذلك، قد تؤدي ممارسات البحث عن حرية الرأي على الدارك ويب إلى تحولات ثقافية واجتماعية في المجتمع، يزيد معها مستوى التمرد والتحرر بين الشباب والأفراد الذين يسعون لتحقيق التغيير والابتكار، مما يفتح الباب لظهور أفكار جديدة وتطورات ثقافية في المجتمع تستحق الرقابة والتصويب أولا بأول.
إن تحقيق التوازن بين حقوق الفرد وأمن المجتمع يمثل تحديًا كبيرًا، ولكن بالعمل المشترك والتصدي للتحديات بشجاعة وحكمة، يمكننا تحقيق تغييرات إيجابية وبناء مستقبل أكثر استقرارا وعدالة.

فيفيان سمير العالم السفلي للإنترنت

مقالات الرأي

آخر الأخبار