الإثنين، 28 أبريل 2025 07:04 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: الشاشة الزرقاء ولعنة البيكسل

بوابة المصريين

يجلس "يوسف" ذو الأربعة عشر عامًا بغرفة المعيشة التي يخيم عليها صمت رهيب، يحدق بشاشة تلمع بألوان زاهية، والضوء الأزرق يرسم ظلالاً شبحية على وجهه الشاحب، أصابعه تتراقص بسرعة خاطفة على لوحة مفاتيح لعالم مسحور، بينما تراقبه أمه من بعيد وهو غائب تماما عن الواقع، عيناها تعكسان خليطًا من الحيرة والخوف، وسؤالا معلقا "هل هذه اللعبة، التي يقضي معها ساعات، تبني عالمًا لعقله، أم تهدم جسده وتفتك بمستقبله وربما حتى روحه، في صمت؟" وهو السؤال الذي يحير ملايين الأسر حول العالم.
في مختبرات علم النفس بجامعة ستانفورد، أثبتت الدراسات أن ليست كل الألعاب الإلكترونية أدوات دمار، حيث تكشف الأبحاث أن ألعاباً مثل "Civilization" تُحسّن مهارات حل المشكلات بنسبة 23%، فيما تخلق ألعاب الحركة الاستراتيجية مهارات اتخاذ القرار. جمعية "Games for Change" تروي كيف حوّلت ألعاب الصحة النفسية وصمة المرض العقلي إلى حكايات تفاعلية، ساهمت في شفاء 40% من المراهقين. حتى أن "Sea of Solitude" دخلت قوائم العلاج المعتمدة عالميًا للاكتئاب.
لكن الصورة لها جانب آخر مظلم. منظمة الصحة العالمية صنفت رسميًا "اضطراب الألعاب" كمرض نفسي في التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) حيث تكشف الإحصائيات أن:
60 دقيقة يوميًا من الألعاب العنيفة تكفي لزيادة العدوانية بنسبة 17%، وفقًا للجمعية الأمريكية لعلم النفس، و8% من اللاعبين، بصفة عامة حول العالم، يعانون من أعراض الإدمان، بحسب دراسة جامعة أكسفورد (2023). ويقول الدكتور خالد السيد، استشاري الطب النفسي للأطفال، محذرا: "أدمغة الأطفال الذين يلعبون أكثر من 4 ساعات يوميًا تُظهر تغيرات تشبه تلك التي تحدث لمدمني المخدرات، خاصة في مناطق التحكم في الانفعالات كما تفقد القدرة على التمييز بين الواقع والخيال.
الأخطر من ذلك أن الشاشات الصغيرة في أيدي أبنائنا قد تتحول إلى سلاح قاتل، دون أن نسمع صراخهم. في غرفة نومه الضيقة، حيث لا ضوء إلا ذلك المتوهج من شاشة الكمبيوتر، جلس "أليكسي"، البالغ من العمر 15 عامًا، لساعات وهو يحدق في لعبة "الحوت الأزرق" التي انتشرت كالنار في الهشيم. كانت التعليمات تظهر له واحدة تلو الأخرى: "احفر رقمًا على ساقك"، "انظر إلى أفلام رعب لمدة 24 ساعة"، وأخيرًا تلك المهمة القاتلة "اقفز من سطح المبنى". لتجده أسرته مطويًا على الأرض كطائر كسير الجناحين. لم يكن أليكسي إلا مجرد رقم في سلسلة طويلة من الضحايا الذين سقطوا في شباك هذه الألعاب القاتلة.
هذه ليست ألعابًا بالمعنى التقليدي، بل هي طقوس موت منظمة، تختبئ تحت عباءة الترفيه الرقمي. "الحوت الأزرق" ليست اللعبة الوحيدة، فقبلها ظهرت لعبة "مومو"، التي تسللت إلى مقاطع اليوتيوب للأطفال بصورتها المرعبة، تلك العيون الجاحظة والابتسامة الشيطانية، تحثهم على إيذاء أنفسهم. وما يثير الرعب أن هذه الألعاب لا تختفي، بل تتناسخ كالفيروسات، كل لعبة أشد فتكًا من سابقتها.
الأطباء النفسيون يطلقون على هذه الظاهرة اسم "الانتحار بالوكالة الرقمية". ففي دراسة أجرتها "منظمة الصحة العالمية" عام 2022، تبين أن 65% من ضحايا هذه الألعاب كانوا يعانون أصلا من الاكتئاب أو القلق، مما جعلهم فريسة سهلة للمتلاعبين الذين يستغلون ضعفهم. تقول أخصائية الطب النفسي للأطفال في موسكو د. "إيلينا سمرنوفا": "هذه الألعاب مصممة بعناية لاستغلال الثغرات النفسية للمراهقين، فهي تبدأ بمهام بسيطة تتصاعد بشكل متدرج لتخلق نوعًا من الإدمان المرضي".
القصص الواقعية تكشف مدى بشاعة هذه الظاهرة. لكن كيف تنجح هذه الألعاب في السيطرة على العقول بهذا الشكل؟ التحليل النفسي يكشف أن الأمر يعتمد على ثلاث آليات رئيسية: خلق شعور زائف بالانتماء إلى جماعة سرية، استخدام تقنيات غسيل دماغ متدرجة، واستغلال حاجة المراهق الطبيعية للمغامرة والتحدي. هذه الألعاب تستخدم نفس تقنيات السيطرة العقلية التي تستخدمها الجماعات المتطرفة كما يقول البروفيسور "مارك غريفيث"، خبير الإدمان الرقمي في جامعة نوتنغهام ترنت. كما أن "آنا"، والدة أحد الضحايا، تقول: "ابني لم يمت، لقد قُتل على يد مجرمين اختبأوا خلف الشاشات".
البيانات الصادمة تكشف حجم الكارثة. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة اليونيسف (2023)، فإن 1 من كل 5 مراهقين في العالم تعرّض لمحاولة استدراج عبر ألعاب إلكترونية خطيرة. في روسيا وحدها، سجّلت السلطات 246 حالة انتحار مرتبطة بلعبة "الحوت الأزرق" بين 2015 و2018، كما ورد في تقرير وزارة الداخلية الروسية. أما في الهند، فقد أظهرت دراسة أجرتها مجلة لانسيت للطب النفسي (2022) أن 78% من ضحايا هذه الألعاب كانوا يعانون من إهمال أسري واضح. لذلك تعتبر الأسرة هي خط الدفاع الأول والأهم، يؤكد ذلك ما ذكرته الدكتورة نورا الخليفي، استشارية الطب النفسي للأطفال بمستشفى الملك فيصل التخصصي، أن المراهقين الضحايا لهذه الألعاب يجمعهم ثلاث سمات مشتركة هي، الفراغ العاطفي، غياب الرقابة الأسرية، وإدمان العزلة الرقمية. الدماغ في هذه السن يكون مثل الإسفنج، يمتص كل ما يُقدم له دون فلترة. عندما تقدم اللعبة نفسها كـ"صديق" يفهم مشاكلهم أكثر من أهلهم، وبهذا يصبح الانزلاق نحو الهلاك أمرًا سهلًا، وتضيف أن الكارثة الأكبر كون 90% من الحالات التي عالجتها كانت أسرهم لا يعرفون حتى اسم اللعبة التي أدمنها أبناؤهم، حسب دراسة أجريت في جامعة الملك سعود (2023).
كما يكشف تحليل مركز مكافحة الجرائم الإلكترونية في الإنتربول أن هذه الألعاب تعتمد على:
التدرج النفسي حيث تبدأ بمهام بسيطة (مثل الاستيقاظ في منتصف الليل) ثم تتطور إلى إيذاء الجسد (الجرح، الحرمان من النوم)، وأخيرًا الانتحار.
التلاعب بالهوية حين تُشعر اللاعب أنه "مختار" لتنفيذ مهمة سرية، مما يغذي غروره ويُضعف قدرته على الادراك والفرز.
الابتزاز العاطفي كتهديد اللاعب بكشف "أسراره" لأهله إن حاول الانسحاب.
لذلك يجب الانتباه للعلامات التحذيرية التي تظهر مع بداية الدخول في النفق المظلم، والتي يحددها البروفيسور أحمد المنصوري، أستاذ علم النفس الإكلينيكي في جامعة القاهرة، بأنها تغير مفاجئ في الروتين اليومي، مثل النوم نهارًا والاستيقاظ ليلًا، إصابات جسدية غير مبررة مثل الجروح، الكدمات، أو الحروق، الانسحاب الاجتماعي كرفض الاختلاط بالأسرة أو الأصدقاء، وردود فعل عصبية عند سؤاله عن اللعبة التي يمارسها. ويؤكد: "في دراسة شملت 500 حالة ضحية، وجدنا أن 70% منهم أظهروا علامات التحذير هذه قبل 3 أشهر على الأقل من الحادثة، لكن الأهل لم يلتفتوا لها".
في عالمٍ لم يعد فيه الواقع الافتراضي "افتراضيًا"، بل صار بوابة لوقائع على أرض العالم الحقيقي، قد تصل لقمة درجات الخطر، تتحول التربية من فعل روتيني مُسلم به إلى مهمة شاقة، للحفاظ بل ولإنقاذ حياة أبنائنا، فكما قال أحد الناجين: "اللعبة لم تقتلني لأن أمي دخلت غرفتي في اللحظة المناسبة... كانت تلك هي المرة الوحيدة التي لم تطرق فيها الباب".
وتقدم لنا الخبيرة التربوية د. هدى السعدون وصفة وقائية قائلة: "الاستماع دون حكم، عندما يقول لك ابنك إنه يشعر بالملل أو الوحدة، لا تهمل صرخاته المعلقة بين سطور كلامه والتي قد تنقذ حياته. تشجيع أبنائنا على ممارسة البدائل الإيجابية، كالألعاب الجماعية وممارسة الرياضة والأنشطة والهوايات المختلفة بعالمهم الحقيقي الذي يجب أن يكون أكثر إثارة من الافتراضي، كذلك تطبيق الرقابة الذكية باستخدام برامج مراقبة لا تنتهك الخصوصية.
وقد أثبتت التجارب الناجحة، أن التدخل المبكر قد يُحدث فرق. مركز سان بطرسبرغ للطب النفسي في روسيا أطلق برنامجًا لإعادة تأهيل الناجين من هذه الألعاب، النتائج كانت مبشرة حيث أن 65% من المشاركين استعادوا توازنهم النفسي خلال عام، وفقًا لتقرير المركز في (2023).
ومع ذلك، في مواجهة هذه الظاهرة، تبرز أسئلة أخلاقية وقانونية معقدة عمن المسؤول؟ كيف يمكن حماية الأطفال في عالم مفتوح بلا حدود؟ وما دور شركات التكنولوجيا والتشريعات القانونية في منع انتشار هذه الألعاب؟ بعض الدول مثل روسيا والبرازيل بدأت بتجريم هذه الممارسات، لكن المعركة لا تزال في بدايتها. ففي زمن تحولت فيه الحياة إلى لعبة، وأصبح الموت مجرد نقرة زر، قد يكون أقوى سلاح لدينا هو أن نتعلم كيف نلعب مع أبنائنا، لا أن ندعهم يلعبون وحدهم بما نجهل نحن.

مقالات الرأي

آخر الأخبار