الثلاثاء، 17 سبتمبر 2024 02:21 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: التأثير التراكمي

فيفيان سمير
فيفيان سمير

التأثير التراكمي مفهوم يعكس قوة التأثير الذي ينشأ من تراكم الأحداث أو العوامل أو العادات والأفعال الصغيرة المتكررة على مر الزمن، وهو ما يسمى أيضًا بتأثير كرة الثلج. قد تبدو الأشياء الصغيرة غير مهمة للوهلة الأولى، ولكن مع مرور الوقت ينتج عنها تأثيرًا يتزايد ويتعاظم كنهر هادر يجري ببطء، يأخذ معه ترسبات الرمال والحصى، وكل حبيبة تضاف إلى الأخرى، تزيد من ثقله وقوته، حتى يصبح تأثيره لا يُقاوَم.
يقول أرسطو: "نحن ما نقوم به مراراً وتكراراً "، كلنا لدينا عادات وطقوس يومية بعضها مفيد، والبعض الآخر ليس كذلك، ومعظمها تلقائي وغير مخطط له. ويتجلى التأثير التراكمي بوضوح في كيفية تشكل شخصيتنا وشكل حياتنا؛ فكل قرار نتخذه، وكل تجربة نعيشها، وكل سلوك نعتنقه، يشكل منهجنا ومسارنا ويكون كنقطة صغيرة تضاف إلى الصورة الكلية لحياتنا.
قد يكون التأثير التراكمي إيجابيًا، حيث يساهم في بناء شخصية قوية وناجحة، أو قد يكون سلبيًا بتراكم الأخطاء والهفوات، فكل خطوة صغيرة نقوم بها، وكل قرار نتخذه، يمكن أن يكون له تأثير تراكمي عميق ومستمر، وبمجرد ظهور التأثير التراكمي، تتسارع وتيرة النتائج مثل كرة الثلج.
ويعبر المثل المصري القديم "الزّن على الودان أمرّ من السحر" عن هذه الظاهرة في شكل كبسولة تراثية سريعة وبسيطة، تحتوي على حكمة الأجداد التي تتداولها الأجيال حتى الآن، ويتبناها الكثير من الأشخاص لإقناع شخص ما بقبول فكرة معينة أو شيء يرفضه، وذلك بمواصلة الحديث والتكرار والاستحواذ على عقل هذا الشخص وتفكيره، بطريقه تكاد تُشبه السحر وربما تتفوق عليه، فيكون تأثير الزن المستمر أشد حقًا من مفعول السحر، ويظهر ذلك بوضوح في عالم الدعاية والإعلام، حيث تتسلل الشركات إلى عقول المستهلكين ببراعة وإتقان، مستغلة التأثير التراكمي لترويج منتجاتها وجذب الجمهور. إنها استراتيجية محكمة تعتمد على الحيلة النفسية لقوة التأثير التراكمي في استيعاب المعلومات بشكل تدريجي، حيث تعمل الشركات على بناء صورة إيجابية حول منتجاتها من خلال تكرار الرسائل والإعلانات بشكل مستمر، مما يؤدي إلى ترسيخ هذه الصورة في عقول المستهلكين. بتكرار الرؤية والاستماع إلى الرسائل الإعلانية، يتم تعزيز الاقتناع بجودة المنتج وفعاليته، حتى يصبح اختياره أمرا طبيعيا ولا شعوريا.
ومن خلال الاستفادة من التأثير التراكمي، تنجح الشركات في خلق حاجة وتشجيع الاستهلاك، من خلال ترسيخ فكرة أن المنتج هو الحل الأمثل لحل مشكلة معينة أو تحقيق هدف معين. وهكذا، تصبح العلامة التجارية جزءًا لا يتجزأ من حياة المستهلك، ويصبح التفاعل معها شيئا لا يمكن تجاهله.
الأخطر من ذلك في زمن مليء بالإعلام السيء والمحتوى الرديء الذي يصل إلى حد السفه على وسائل التواصل الاجتماعي، يتجلى الأثر التراكمي السلبي بوضوح في تغيرات المجتمع التي تحدث ببطء ودون أن نشعر، إنه كالسم الذي يتسرب ببطء إلى الأرواح والعقول، يغير تدريجياً وجه المجتمع وقيمه وثقافته، إنه كالسحر الأسود الذي يمتص الضوء ويغمر العقول بالظلام، مما يؤدي إلى تدهور القيم وتغيير المعايير الأخلاقية، يتسلل إلى عقول الناس وقلوبهم، يزرع بذور الشك والعدمية، ويقلل من قدرتهم على التمييز بين الصحيح والخاطئ. يظهر هذا التأثير التراكمي في زيادة العنف والانقسامات في المجتمع، وظهور طبقة من ممسوخي الهوية ومنعدمي الطموح، ونوع جديد من القدوة السيئة التي تزيح العلماء والمفكرين، ليحل محلهم صانعي المحتوى وجامعي الثروات من الهواء، مع فقد قيمة العمل الجاد والنجاح الحقيقي والسعي الفعلي على الأرض.
إن الإعلام والفن السيء والمحتوى السطحي الرديء الذي يسهم في التأثير على الصحة النفسية للأفراد، وقد يسهم في زيادة مستويات القلق والاكتئاب، والاستسلام لحياة الخمول وفقدان الثقة في المستقبل أو إمكانية الحصول على حياة أفضل، ليس سوى نتاج للطموحات الرخيصة والأجندات الخبيثة التي تستهدف تقويض البناء المجتمعي من الداخل، متحلية بالصبر، معتمدة على طرق قطرة المياه التي تفتت الحجر، تلك القوة الخفية التي تنطلق من الضعف الظاهر ومع الوقت يكون تأثيرها في التكاثر والتكامل، الذي إذا سمحنا له بالانتشار دون مقاومة، فإننا نجعل منه قوة تدمرية لا يمكن التحكم فيها أو السيطرة عليها. علينا أن نكون واعين لهذا الخطر مع اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الأثر السلبي له، وتعزيز الوعي بأهمية اختيار المحتوى الصحيح والمفيد الذي نتفاعل معه، وتحويل الإعلام إلى وسيلة للتثقيف والتوعية، بدلاً من أداة للتحكم عن بعد للتأثير السلبي والتدمير الذاتي، لتهيئة المجتمع لحروب الجيلين الرابع والخامس.
يجب علينا أن نكون حذرين ويقظين تجاه خطورة الأثر التراكمي خاصة السلبي منه، ولا نستهين بما يبدو بسيط وصغير، حتى لا تسحقنا كرة الثلج المنحدرة بسرعة كاسحة ونحن عاجزون عن إيقافها؛ فإن التطور المجتمعي الحضاري الشامل لا يحدث إلا إن سبقه تطور للفرد بشكل جذري وحاسم في ثقافته وسلوكه، وندرك أن عملية الإحلال ليست شيئا يسيرا، ولكنه هام وضروري للحفاظ على ميراثنا الثقافي ووحدة مجتمعنا ومفرداته وتفاصيله الخاصة والمتفردة، والحفاظ على خصوصية الروح المصرية التي بدأت تتسرب وتتبخر في فضاء العالم المفتوح.

فيفيان سمير التأثير التراكمي

مقالات الرأي

آخر الأخبار