الأحد، 8 سبتمبر 2024 11:12 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: رابطة مدمرة

فيفيان سمير
فيفيان سمير

في عالم العلاقات الإنسانية التي تمتزج فيها العواطف والتوترات، تتأرجح النفس بين تضارباتها وتعقيداتها العديدة، ومن بين هذه التعقيدات المُربكة تبرز تلك الظاهرة المشهورة بمتلازمة ستوكهولم. إنها حالة تتشكل خلالها رابطة غريبة بين الضحية والمُعتدِي، حيث يتم تكوين ارتباط عاطفي غير طبيعي بينهما، ويجد الشخص نفسه متشبثًا بمن يؤذيه بل متعلقا ومدافعا عنه، ويتعذب في الانفصال عنه، رغم وعيه التام بالألم الذي يتسبب فيه هذا الشخص.

تعود أصول مصطلح "متلازمة ستوكهولم" إلى حادثة وقعت في العاصمة السويدية ستوكهولم عام 1973. حينها، احتجز لصان رهائن في أحد البنوك لعدة أيام، ولكن بدلاً من أن يشعر الرهائن بالرهبة والخوف، وجدوا أنفسهم يطلقون سراح اللصين من خلال تأييدهم وحمايتهم لهم من قوات الأمن. وهكذا، وُلِدَ مفهوم "متلازمة ستوكهولم"، كنوعٍ من التعاطف غير المتوقع الذي يمكن أن ينشأ بين الضحية والمُعتدِي.

إن تشابك العواطف والمشاعر في حالات متلازمة ستوكهولم يجعلها ظاهرة محيرة، فالضحية تجد نفسها محاصرة في متاهة من الألم والتناقضات. تنطبق متلازمة ستوكهولم على العديد من الحالات؛ فهي عبارة عن تحويل المشاعر المؤلمة الى مشاعر ممتعة من أجل التأقلم والنجاة، بسبب اعتقاد العقل الباطن بانعدام إمكانية حلها أو تغيير الوضع المهين والمؤذي، لأسباب كثيرة يبتدعها في أغلب الأحيان كمجرد حيلة نفسية للهروب من المواجهة. مثال ذلك الزوجات الذين يحببن ازواجهن الظالمين والعنيفين ولا يقدرن على التخلص منهم. فتجدها فجأة تستمتع داخلياً بتصرفاته القاسية نفسيا وربما جسديا أيضا، كذلك الأزواج شركاء العلاقات السامة المدمرة، الذين يستمرون في زيجات فاشلة ولا يحصدون إلا الخسائر النفسية والمعنوية والمادية في حين لا يحصلون على أبسط حقوقهم، ومع ذلك يحرصون على استمرار العلاقة الفاسدة. من المهم أن نفهم أن هذا الارتباط العاطفي المؤلم ليس ضعفا أو خللًا في شخصية الضحية، بل هو استجابة نفسية للظروف الصعبة التي يعيشها. قد يكون الضحية متمسكا بالمعتدي بسبب الخوف من العواقب السلبية التي قد تنتج عن انفصالهما، وتأثير ذلك على أبنائهما. إن التعلق المؤذٍ يشكل رمزًا للتناقضات النفسية التي تعصف بالإنسان، فالضحية تجد نفسها تدور في دوامة مؤلمة، محاصرة بين الحب والكراهية، الاقتراب والابتعاد، الاستمرار مع أو الاستقلال عن مصدر الأذى. تستثير هذه الظاهرة العديد من التساؤلات حول أسبابها ومآلاتها، ويبقى السؤال الأهم هو ما الذي يدفع الضحية إلى الاستمرار، ربما يكمن الجواب في الخوف من الوحدة والشعور بالانكسار في حالة الانفصال، كما يمكن أن ينبع هذا التعلق المؤذ من الشعور بعدم القدرة على مواجهة القيود والضغوط الاجتماعية، أو قد يكون الارتباط العاطفي المؤذ نتيجة لعملية تحكم نفسية، يقوم بها الضحية كآلية دفاعية تحاول النفس من خلالها الحفاظ على ما تبقى من العلاقة، وتجنب الألم القادم من الانفصال، كما تجعل الضحية يشعر بالمسؤولية عن إصلاح المعتدي أو تغيير سلوكه، وهو ما يعرف بمتلازمة الإنقاذ، حيث يعتقد الضحية أنه إذا بقى مع المعتدي ووفر له كل الدعم، فإنه قد يكون قادرا على تحويله إلى شخص أفضل، ذلك الأمل الضئيل بأن الشخص الضار يمكن أن يتغير ويصبح سويا في المستقبل، وعندما يُظهر المسيء للضحية بعض اللطف البسيط، على الرغم من أن ذلك قد يكون لأسباب خبيثة خاصة برغبة شخصية له، فإن الضحية يفسر هذا اللطف على أنه سمة إيجابية للمعتدي، وأن التغيير الإيجابي يتحقق. قد ينشأ هذا السلوك من خلفية شخصية معينة، مثل تربية تركز على مساعدة الآخرين أو تجربة سابقة للتعرض لسوء المعاملة أو الإهمال، وقد تكون نتاجا لتفكيره المشوه واعتقاده القوي في القدرة على التأثير على الآخرين.

إن هذه الاستراتيجية غالبًا ما تكون غير واقعية وقد تجلب مزيدًا من الأذى للضحية، وهذا التعلق المؤذٍ يأتي بثمن باهظ، فالضحية تعيش في حالة توتر دائم، وتفقد هويتها واستقلاليتها. إن متلازمة الإنقاذ ليست حلاً فعالاً وتؤدي في الحقيقة إلى علاقات غير صحية وتلازميه؛ فالشخص الذي يعاني من هذه المتلازمة يمكن أن يجد نفسه في دائرة من التعب العاطفي والتضحية المستمرة، حيث يضع احتياجاته وسعادته الشخصية جانبا من أجل راحة المعتدي.

من جانب آخر، يمكن تفسير متلازمة ستوكهولم كآلية دفاعية نفسية تحاول النفس الحفاظ على العلاقة المُعقدة بهدف تخفيف الضغوط النفسية والعاطفية. قد يرتبط هذا التعلق بتجارب سابقة سلبية أو انعدام الأمان العاطفي في حياة الضحية، مما يجعلها تبحث عن أي شكل من أشكال الارتباط حتى وإن كان مؤذيًا. عندما يتعرض الفرد لسوء المعاملة المستمرة والترهيب، فإن رد فعله العاطفي الطبيعي يتحول إلى السعي لإيجاد طرق للتعايش مع المعتدي وتقليل الأذى الذي يلحق به. قد تشعر الضحية بأن الارتباط العاطفي هو السبيل للحفاظ على سلامتها وتجنب العقاب أو العنف الأكثر شراسة.

بالطبع، يجب أن نتساءل عن آثار متلازمة ستوكهولم على الضحية وعلى صحتها النفسية. فالتعلق المفرط بالمعتدي قد يؤدي إلى تدهور حالتها النفسية وتضعف قدرتها على التفكير المنطقي واتخاذ القرارات السليمة. قد تفقد الضحية القدرة على التمييز بين الصح والخطأ، وتتجاهل الأدلة والحقائق التي تشير إلى سوء معاملة المعتدي، كما تخدع الضحية نفسها بتصورها للمعتدي على أنه شخص جيد ومحبوب، وتوجد له الاعذار والمبررات لتتجاهل الأذى الذي يلحق بها.

على صعيد آخر، يمكن أن تنعكس متلازمة ستوكهولم على المجتمع بشكل عام. فعندما يتم تبرير سلوك المعتدي وحمايته من قبل الضحية، فإن ذلك يغذي ويعزز سلوكه المؤذ، ويسهم هذا في إشعال دائرة مفرغة من العنف والاستغلال الذي يمتد لنطاق أوسع، حيث يعتقد المعتدي أنه يمكنه الإفلات من العواقب ومواصلة سلوكه المُدمر مع الجميع.

لنكن واثقين أن الارتباط المؤذي الذي نعيشه ليس سوى سجن نحتاج إلى كسره والتحرر من قيوده، وأن الانفصال عما يؤذينا ليس خيانة لأنفسنا ولا خيانة للشريك أو تقصير بحق العلاقة التي تربطنا، بل هو خطوة نحو الشفاء والتخلص من هذه الرابطة المدمرة والطريق للحرية والتطور الشخصي.

أول خطوة في الشفاء تكمن في الاعتراف بالواقع وتوضيح المشكلة. يجب أن تدرك أن العلاقة التي تربطك بالمعتدي هي غير صحية ومؤذية. لن تتحسن الأمور بمجرد الدفاع عن المعتدي أو تبرير أفعاله. يجب أن تُشكل وعيا حقيقيا بأنك تعاني وأنك تحتاج إلى التخلص من هذه الحالة.

ثانيًا، يجب أن تبحث عن الدعم المناسب. قد يكون من المفيد التحدث مع أصدقاء موثوق بهم، أو أفراد عائلتك الذين يستطيعون أن يقدموا لك الدعم العاطفي. أيضا، يُمكنك اللجوء إلى المساعدة من خلال استشارة معالج نفسي متخصص في متلازمة ستوكهولم، لديه الخبرة والأدوات اللازمة لمساعدتك في فهم الحالة والتعامل معها.

ثالثًا، يجب أن تستعيد قوتك الشخصية وثقتك الذاتية واستقلاليتك، وتعلم أنك تستحق الاحترام والرعاية. اكتشف مواهبك واهتم بنفسك واستثمر في تطوير قدراتك. هذا سيساعدك على استعادة السيطرة على حياتك والتحرر من قبضة المتلازمة.

أخيرًا، يجب أن تتخذ قرارا قويا بالابتعاد عن المعتدي. قد يكون من الصعب فعل ذلك، لأن التعلق العاطفي يمكن أن يكون قويا، ولكن عليك أن تعلم أن البقاء في هذه العلاقة لن يجلب لك سوى المزيد من الألم والأذى. ابتعد عن المعتدي واستعد حياتك من جديد.

في النهاية، التخلص من متلازمة ستوكهولم يتطلب شجاعة وتصميم. عليك أن تعيش الواقع وتتخذ الخطوات اللازمة لتحرير نفسك. لا تسمح للخوف والتردد بالسيطرة عليك، بل انطلق نحو الحرية والسلام النفسي الذي تستحقه. قد يكون الطريق صعبًا، ولكن الشفاء والتحرر هما ما تستحقه.

يجب أن نتذكر دائما أننا نستحق الحب والاحترام والسعادة، وأن العلاقات الصحية هي تلك التي تساهم في نمونا وسلامنا النفسي. علينا أن نتعلم كيف نعتني بأنفسنا ونعيد بناء الثقة والاحترام الذاتي المفقودين. يمكننا أن نبدأ بتطوير الوعي الذاتي وفهم الأنماط السلبية التي تؤثر في اختياراتنا العاطفية. يجب أن نتعلم الحدود الصحية، وأن ندرك أننا لسنا مسؤولين عن إصلاح الآخرين. يجب علينا أيضا أن نولي اهتماما لاستيعاب احتياجاتنا الشخصية وعنايتنا بنفسنا، لتعزيز الصحة العقلية والعاطفية والمساعدة على بناء علاقات صحية ومتوازنة مع الآخرين.

فيفيان سمير رابطة مدمرة

مقالات الرأي

آخر الأخبار